فصل: تابع فصل: أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 بكل حال، وعارضهم قوم فقالوا‏:‏ الشهر تسعة وعشرون، واليوم الآخر زيادة، وهذا المعني هو الذي صرح به النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، والشهر هكذا، وهكذا‏)‏ يعني‏:‏ مرة ثلاثين، ومرة تسعة وعشرين، فمن جزم بكونه ثلاثين، أو تسعة وعشرين، فقد أخطأ‏.‏

والمعني الثاني‏:‏ أن يكون أراد أن عدد الشهر اللازم الدائم هو تسعة وعشرون، فأما الزائد فأمر جائز يكون في بعض الشهور، ولا يكون في بعضها‏.‏

والمقصود أن التسعة والعشرين يجب عددها واعتبارها بكل حال في كل وقت، فلا يشرع الصوم بحال حتى يمضي تسعة وعشرون من شعبان، ولابد أن يصام في رمضان تسعة وعشرون؛ لا يصام أقل منها بحال، وهذا المعني هو الذي يفسر به رواية أيوب عن نافع‏:‏ ‏(‏إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه‏)‏ أي‏:‏ إنما الشهر اللازم الدائم الواجب تسعة وعشرون‏.‏ ولا يمكن أن يفسر /هذا اللفظ بالمعني الأول؛ لما فيه من الحصر‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن ذلك قد يكون إشارة إلى شهر بعينه، لا إلى جنس الشهر، أي‏:‏ إنما ذلك الشهر تسعة وعشرون، كأنه الشهر الذي إلى فيه من أزواجه، لكن هذا يدفعه قوله عَقِبَه‏:‏ ‏(‏فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له‏)‏، فهذا يبين أنه ذكر هذا لبيان الشرع العام المتعلق بجنس الشهر،لا لشهر معين‏.‏ فإنه قد بين أنه ذكر هذا لأجل الصوم، فلو أراد شهرًا بعينه قد علم أنه تسعة وعشرون؛ لكان إذا علم أن ذلك الشهر تسع وعشرون لم يفترق الحال بين الغم وعدمه،ولم يقل‏:‏ ‏(‏فلا تصوموا حتى تروه‏)‏، ولأنه لا يعلم ذلك إلا وقد رؤي هلال الصوم، وحينئذ فلا يقال‏:‏ ‏(‏فإن غُمَّ عليكم‏)‏‏.‏

ولذلك حمل الأئمة ـ كالإمام أحمد ـ قوله المطلق على أنه لجنس الشهر، لا لشهر معين، وبنوا عليه أحكام الشريعة‏.‏ قال حنبل بن إسحاق‏:‏ حدثني أبو عبدالله، حدثنا يحيي ابن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن، قال أبو عبدالله‏:‏ قلت ليحيي‏:‏الذين يقولون الملائي، قال‏:‏ نعم، عن الوليد بن عقبة قال‏:‏ صمنا على عهد على ـ رضي الله عنه ـ ثمان /وعشرين، فأمرنا على أن نتمها يومًا‏.‏ أبو عبدالله ـ رحمةالله عليه ـ يقول‏:‏ العمل على هذا الشهر؛ لأن هكذا وهكذا تسعة وعشرون، فمن صام هذا الصوم قضي يومًا، ولا كفارة عليه‏.‏

وبما ذكرناه يتبين الجواب عما روي عن عائشة في هذا قالت‏:‏ يرح الله أبا عبد الرحمن، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا فنزل لتسع وعشرين‏.‏ فقيل له، فقال‏:‏ ‏(‏إن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين‏)‏، فعائشة ـ رضي الله عنها ـ ردت ما أفهموها عن ابن عمر، أو ما فهمته هي من أن الشهر لا يكون إلا تسعًا وعشرين‏.‏ وابن عمر لم يرد هذا، بل قد ذكرنا عنه الروايات الصحيحة، بأن الشهر يكون مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين، فثبت بذلك أن ابن عمر روي أن الشهر يكون تارة كذلك، وتارة كذلك‏.‏

وما رواه إما أن يكون موافقًا لما روته عائشة ـ أيضًا ـ من أن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين، وإما أن يكون معناه‏:‏ أن الشهر اللازم الدائم الواجب هو تسعة وعشرون، ومن كلام العرب وغيرهم أنهم ينفون الشيء في صيغ الحصر أو غيرها، تارة لانتفاء ذاته، وتارة لانتفاء فائدته ومقصوده، ويحصرون الشيء في غيره، تارة لانحصار جميع الجنس منه، وتارة لانحصار المفيد أو الكامل فيه، ثم إنهم تارة /يعيدون النفي إلى المسمى، وتارة يعيدون النفي إلى الاسم، وإن كان ثابتًا في اللغة إذا كان المقصود الحقيقي بالاسم منتفيا عنه ثابتًا لغيره، كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إليكُم مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏، فنفي عنهم مسمي الشيء، مع أنه في الأصل شامل لكل موجود من حق وباطل؛ لما كان ما لا يفيد ولا منفعة فيه يؤول إلى الباطل الذي هو العدم، فيصير بمنزلة المعدوم، بل ما كان المقصود منه إذا لم يحصل مقصوده؛ كان أولى بأن يكون معدومًا من المعدوم المستمر عدمه؛ لأنه قد يكون فيه ضرر‏.‏

فمن قال الكذب، فلم يقل شيئًا، ومن لم يعمل بما ينفعه، فلم يعمل شيئًا‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان قال‏:‏ ‏(‏ليسوا بشيء‏)‏، ففي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ناس من الكهان فقال‏:‏ ‏(‏ليسوا بشيء‏)‏‏.‏ ويقول أهل الحديث عن بعض المحدثين‏:‏ ليس بشيء، أو عن بعض الأحاديث‏:‏ ليس بشيء، إذا لم يكن ممن ينتفع به في الرواية؛ لظهور كذبه عمدًا أو خطأ‏.‏ ويقال ـ أيضًا ـ لمن خرج عن موجب الإنسانية في الأخلاق ونحوها‏:‏ هذا ليس بآدمي، ولا إنسان، ما فيه إنسانية ولا مروءة، هذا حمار، أو كلب، كما يقال ذلك لمن اتصف بما هو /فوقه من حدود الإنسانية، كما قلن ليوسف‏:‏ ‏{‏مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافًا‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ما تعدون المفلس فيكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ الذي لا درهم له ولا دينار، فقال‏:‏ ‏(‏ليس ذلك، إنما المفلس الذي يجيء يوم القيامة‏)‏ الحديث، وقال‏:‏ ‏(‏ما تَعُدون الرَّقُوب‏؟‏‏)‏ الحديث‏.‏ فهذا نفي لحقيقة الاسم من جهة المعني الذي يجب اعتباره باعتبار أن الرقوب والمفلس إنما قيد بهذا الاسم لما عُدِمَ المال والولد، والنفوس تجزع من ذلك، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عدم ذلك حيث يضره عدمه هو أحق بهذا الاسم ممن يعدمه حيث قد لا يضره ضررًا له اعتبار‏.‏

ومثال هذا أن يقال لمن يتألم ألمًا يسيرًا‏:‏ ليس هذا بألم، إنما الألم كذا وكذا، ولمن يري أنه غني‏:‏ ليس هذا بغني إنما الغني فلان، وكذلك يقال في العالم والزاهد، كقولهم‏:‏ إنما العالم من يخش الله ـ تعالى‏.‏

/وكقول مالك بن دينار‏:‏ الناس يقولون‏:‏ مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها، ونحو ذلك مما تكون القلوب تعظمه لذلك المسمى اعتقادًا واقتصادًا، إما طلبًا لوجوده، وإما طلبًا لعدمه، معتقدًا أن ذلك هو المستحق للاسم، فيبين لها أن حقيقة ذلك المعني ثابتة لغيره دونه، على وجه ينبغي تعليق ذلك الاعتقاد والاقتصاد بذلك الغير‏.‏

ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نه الله عنه، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمجاهد من جاهد بنفسه في ذات الله‏)‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏24‏]‏، فهؤلاء المستحقون لهذا الاسم على الحقيقة الواجبة لهم، ومنه قولهم‏:‏ لا علم إلا ما نفع، ولا مدينة إلا بملك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ربا إلا في النسيئة‏)‏، أو ‏(‏إنما الربا في النسيئة‏)‏، فإنما الربا العام الشامل للجنسين وللجنس الواحد المتفقة صفاته إنما يكون في النسيئة‏.‏ وأما ربا الفضل فلا يكون إلا في الجنس الواحد، ولا يفعله أحد، إلا إذا اختلفت الصفات، كالمضروب بالتبر، والجيد بالرديء، فأما إذا استوت الصفات،/فليس أحد يبيع درهمًا بدرهمين؛ ولهذا شرع القرض هنا لأنه من نوع التبرع، فلما كان غالب الربا وهو الذي نزل فيه القرآن أولاً، وهو ما يفعله الناس، وهو ربا النسأ قيل‏:‏ إنما الربا في النسيئة‏.‏

وأيضًا، ربا الفضل إنما حرم؛ لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فالربا المقصود بالقصد الأول هو ربا النسيئة، فلا ربا إلا فيه، وأظهر ما تبين فيه الربا الجنس الواحد المتفق فيه الصفات، فإنه إذا باع مائة درهم بمائة وعشرين ظهر أن الزيادة قابلت الأجل الذي لا منفعة فيه، وإنما دخل فيه للحاجة؛ ولهذا لا تضمن الآجال باليد، ولا بالإتلاف، فلو تبقي العين في يده، أو المال في ذمته مدة لم يضمن الأجل، بخلاف زيادة الصفة فإنها مضمونة في الإتلاف، والغصب، وفي البيع إذا قابلت غير الجنس، وهذا باب واسع‏.‏

فإن الكلام الخبري إما إثبات، وإما نفي، فكما أنهم في الإثبات يثبتون للشيء اسم المسمى إذا حصل فيه مقصود الاسم، وإن انتفت صورة المسمى، فكذلك في النفي، فإن أدوات النفي تدل على انتفاء الاسم بانتفاء مسماه، فكذلك تارة؛ لأنه لم يوجد أصلاً، وتارة لأنه لم توجد الحقيقة المقصودة بالمسمى، وتارة لأنه لم تكمل تلك الحقيقة، وتارة لأن ذلك المسمى مما لا ينبغي أن يكون مقصودًا، بل المقصود غيره، /وتارة لأسباب أخر، وهذا كله إنما يظهر من سياق الكلام، وما اقترن به من القرائن اللفظية التي لا تخرجها عن كونها حقيقة عند الجمهور، ولكون المركب قد صار موضوعًا لذلك المعني، أو من القرائن الحالية التي تجعلها مجازًا عند الجمهور‏.‏

وأما إذا أطلق الكلام مجردًا عن القرينتين، فمعناه السلب المطلق‏.‏ وهو كثير في الكلام، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الشهر تسع وعشرون‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏‏.‏ حيث قصد به الحصر في النوع، لما كان الله تعالى قد علق بالشهر أحكامًا، كقوله‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ ونحو ذلك، وكان من الإفهام ما يسبق إلى أن مطلق الشهر ثلاثون يومًا‏.‏

ولعل بعض من لم يعد أيام الشهر يتوهم أن السنة ثلاثمائة وستون يومًا، وأن كل شهر ثلاثون يومًا، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الشهر الثابت اللازم الذي لابد منه تسع وعشرون‏.‏ وزيادة اليوم قد تدخل فيه، وقد تخرج منه، كما يقول‏:‏ الإسلام شهادة أن لا إله إلاالله وأن محمدًا رسول الله، فهذا هو الذي لابد منه، وما زاد على ذلك فقد يجب على الإنسان، وقد يموت قبل الكلام، فلا يكون الإسلام في حقه إلا ما تكلم به‏.‏

/وعلى ما قد ثبت عن ابن عمر، فيكون قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم كلا الخبرين، أو أن يكون الذي سمع منه‏:‏ ‏(‏إن الشهر يكون تسعة وعشرين‏)‏،‏(‏ويكون ثلاثين‏)‏ كما جاء مصرحًا به، وسمع منه‏:‏ ‏(‏إن الشهر إنما هو تسع وعشرون‏)‏ روي هذا بالمعني الذي تضمنه الأول، وهو بعيد من ابن عمر، فإنه كان لا يروي بالمعني، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم المعاني الثلاثة أن قوله‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏ لشهر معين، وروي عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏قد يكون‏)‏، وروي عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما الشهر‏)‏‏.‏

وقد استفاضت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يوافق التفسير الأول في حديث ابن عمر، مثل ما رواه البخاري من حديث ابن جريج، عن يحيي بن عبدالله بن صَيفي، عن عكرمة ابن عبد الرحمن، عن أم سلمة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم إلى من نسائه شهرًا، فلما مضي تسعة وعشرون يومًا غدا أو راح، فقيل له‏:‏ إنك حلفت ألا تدخل شهرًا‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا‏)‏ فيه ما يدل على أن الشهر يكمل بحسبه مطلقًا، إلا أن يكون الإيلاء كان في أول الشهر،وهو خلاف الظاهر،فمتي كان الإيلاء في أثنائه فهو نص في مسألة النزاع‏.‏ وروي البخاري ـ أيضًا ـ من حديث سليمان بن بلال، /عن حميد، عن أنس قال‏:‏ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وكانت انفكت رجله، فأقام في مشربة تسعًا وعشرين ليلة، ثم نزل‏.‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله آليت شهرًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الشهر يكون تسعًا وعشرين‏)‏‏.‏

وأما الشهر المعين، فروي النسائي من حديث شعبة، عن سلمة، عن أبي الحكم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أتاني جبريل فقال‏:‏ تم الشهر لتسع وعشرين‏)‏ هكذا رواه بهز عنه‏.‏ ورواه من طريق غندر، ورواه من طريق غندر عنه، ولفظه‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏، فهذه الرواية تبين أن إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم كان فيما بين الهلالين، فلما مضي تسع وعشرون أخبره جبرائيل أن الشهر تم لتسع وعشرين؛ لأن الشهر الذي إلى فيه كان تسعًا وعشرين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظن أن عليه إكمال العدة ثلاثين، فأخبره جبرائيل بأنه تم شهر إيلائه لتسع وعشرين، ولو كان الإيلاء في أول الهلال لم يحتج إلى أن يخبره جبرائيل بذلك؛ لأنه إذا رؤي لتمام تسع وعشرين يعلم أنه قد تم، فإن هذا أمر ظاهر لا شبهة فيه حتى يخبره به جبرائيل‏.‏

وأيضًا، فلو كان الإيلاء بين الهلالين؛ لكان الصحابة يعلمون أن ذلك /شهر، فإن هذا أمر لم يكن يشكون فيه هم ولا أحد أن الشهر ما بين الهلالين، والاعتبار بالعدد، ولكن لما وقع الإيلاء في أثناء الشهر توهموا أنه يجب تكميل العدة ثلاثين، فأخبره جبريل بأنه قد تم شهر إيلائه لتسع وعشرين، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏(‏إن الشهر تسع وعشرون‏)‏ أي‏:‏ شهر الإيلاء ‏(‏وإن الشهر يكون تسعة وعشرين‏)‏‏.‏

وأيضًا، فقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ أعدهن‏.‏ ولو كان في أول الهلال لم تحتج إلى أن تعدهن، كما لم يعد رمضان إذا صاموا بالرؤية، بل روي عنه ما ظاهره الحصر سعد بن أبي وقاص بالإسناد المتقدم إلى أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب بإحدي يديه على الأخرى وهو يقول‏:‏ ‏(‏الشهر هكذا وهكذا‏)‏ ثم يقبض إصبعه في الثالثة‏.‏ وقال أحمد‏:‏ حدثنا معاوية بن عمر، حدثنا زائدة، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الشهر هكذا وهكذا، عشر عشر، وتسع مرة‏)‏ رواه النسائي من حديث محمد بن بشر كما ذكرناه‏.‏ ورواه هو وأحمد ـ أيضًا ـ من حديث ابن المبارك، عن إسماعيل مسندًا، كما تقدم‏.‏ /وقد رواه يحيي بن سعيد ووكيع ومحمد بن عبيد، عن إسماعيل، عن محمد مرسلاً، وقال يحيي بن سعيد في روايته‏:‏ قلت لإسماعيل‏:‏ عن أبيه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

وقد صحح أحمد المسند، وقال في حديث إسماعيل بن أبي خالد‏:‏ حديث سعد‏:‏ ‏(‏الشهر هكذا وهكذا‏)‏ قال يحيي القطان‏:‏ أردنا أن يقول عن أبيه فأبي‏.‏ قال أحمد‏:‏ هذا عن إسماعيل كان يسنده أحيانًا وأحيانًا لا يسنده‏.‏ ورواه زائدة عن أبيه قيل له‏:‏ إن وكيعًا قد رواه، ويحيي يقول‏:‏ ما يقول‏؟‏ قال‏:‏ زائدة قد رواه‏.‏ وقال ـ أيضًا ـ‏:‏ قد رواه عبدالله عن أبيه، وابن بشر وزائدة وغيرهم، وهذا الذي قاله، بيان أن هذه الزيادة من هؤلاء الثقاة، فهي مقبولة‏.‏ وأن الذين حدَّثوا عنه كان تارة يذكرها وتارة يتركها‏.‏ وقد روي ما يفسره، فروي أبو بكر الخَلاَّل وصاحبه من حديث وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن محمد ابن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشهر هكذا وهكذا وهكذا، والشهر هكذا وهكذا وهكذا‏)‏، وأشار وكيع بالعشر الأصابع مرتين، وخَنَسَ واحدة الإبهام في الثالثة‏.‏

فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور‏:‏

أحدها‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏(‏إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب‏)‏، هو خبر /تضمن نهيا، فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط، أمية لا تكتب ولا تحسب، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة، فيكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما، وهذا كقوله‏:‏ ‏(‏المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏)‏ أي‏:‏ هذه صفة المسلم، فمن خرج عنها خرج عن الإسلام، ومن خرج عن بعضها خرج عـن الإسـلام في ذلك البعض، وكذلك قولـه‏:‏ ‏(‏المؤمـن مـن آمنـه الناس على دمائهـم وأموالهم‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهلا قيل‏:‏ إن لفظه خبر ومعناه الطلب‏؟‏‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏228‏]‏، ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏233‏]‏، ونحو ذلك، فيكون المعني‏:‏ أن من كان من هذه الأمة فلا ينبغي له أن يكتب ولا يحسب، نهاه عن ذلك؛ لئلا يكون خبرًا قد خالف مخبره، فإن منهم من كتب أو حسب‏.‏

قيل‏:‏ هذا معني صحيح في نفسه، لكن ليس هو ظاهر اللفظ، فإن ظاهره خبر، والصرف عن الظاهر إنما يكون لدليل يحوج إلى ذلك، ولا حاجة إلى ذلك كما بيناه‏.‏

/وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏(‏إنا أمة أمية‏)‏ ليس هو طلبًا، فإنهم أميون قبل الشريعة، كما قال الله ـ تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏،فإذا كانت هذه صفة ثابتة لهم قبل المبعث لم يكونوا مأمورين

بابتدائها‏.‏ نعم، قد يؤمرون بالبقاء على بعض أحكامها، فإنا سنبين أنهم لم يؤمروا أن يبقوا على ما كانوا عليه مطلقًا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلم لا يجوز أن يكون هذا إخبارًا محضًا أنهم لا يفعلون ذلك، وليس عليهم أن يفعلوه؛ إذ لهم طريق آخر غيره، ولا يكون فيه دليل على أن الكتاب والحساب منهي عنه؛ بل على أنه ليس بواجب، فإن الأموة صفة نقص، ليست صفة كمال، فصاحبها بأن يكون معذورًا أول من أن يكون ممدوحًا‏.‏

قيل‏:‏ لا يجوز هذا، لأن الأمة التي بعثه الله إليها، فيهم من يقرأ ويكتب كثيرًا، كما كان في أصحابه وفيهم من يحسب، وقد بعث صلى الله عليه وسلم بالفرائض التي فيها من الحساب ما فيها، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم عامله على الصدقة ـ ابن اللُتْبِية ـ حاسبه‏.‏ وكان له كُتَّاب عدة ـ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى وزيد ومعاوية ـ يكتبون الوحي، ويكتبون العهود، ويكتبون كتبه إلى الناس، إلى من بعثه الله /إليه من ملوك الأرض، ورؤوس الطوائف، وإلى عماله وولاته وسعاته وغير ذلك‏.‏ وقد قال الله ـ تعالى ـ في كتابه‏:‏ ‏{‏لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏5‏]‏، في آيتين من كتابه فأخبر أنه فعل ذلك ليعلم الحساب‏.‏

وإنما الأمي هو في الأصل‏:‏ منسوب إلى الأمة، التي هي جنس الأميين، وهو من لم يتميز عن الجنس بالعلم المختص، من قراءة أو كتابة كما يقال‏:‏ عامي لمن كان من العامة، غير متميز عنهم بما يختص به غيرهم من علوم، وقد قيل‏:‏ إنه نسبة إلى الأم، أي‏:‏ هو الباقي على ما عودته أمه من المعرفة والعلم، ونحو ذلك‏.‏

ثم التميز الذي يخرج به عن الأمية العامة إلى الاختصاص، تارة يكون فضلاً وكمالاً في نفسه ـ كالمتميز عنهم بقراءة القرآن، وفهم معانيه ـ وتارة يكون بما يتوصل به إلى الفضل والكمال، كالتميز عنهم بالكتابة وقراءة المكتوب ـ فيمدح في حق من استعمله في الكمال، ويذم في حق من عطله أو استعمله في الشر‏.‏ ومن استغني عنه بما هو أنفع له كان أكمل وأفضل، وكان تركه في حقه مع حصول المقصود به أكمل وأفضل‏.‏

فإذا تبين أن التميز عن الأميين نوعان،فالأمة التي بعث فيها /النبي صلى الله عليه وسلم أولاهم العرب، وبواسطتهم حصلت الدعوة لسائر الأمم؛ لأنه إنما بعث بلسانهم، فكانوا أميين عامة، ليست فيهم مزية علم ولا كتاب ولا غيره، مع كون فطرهم كانت مستعدة للعلم أكمل من استعداد سائر الأمم، بمنزلة أرض الحرث القابلة للزرع، لكن ليس لها من يقوم عليها، فلم يكن لهم كتاب يقرؤونه مُنزَّل من عندالله كما لأهل الكتاب، ولا علوم قياسية مستنبطة، كما للصابئة ونحوهم‏.‏ وكان الخط فيهم قليلاً جدًا، وكان لهم من العلم ما ينال بالفطرة التي لا يخرج بها الإنسان عن الأموة العامة، كالعلم بالصانع ـ سبحانه ـ وتعظيم مكارم الأخلاق، وعلم الأنواء والأنساب والشعر‏.‏ فاستحقوا اسم الأمية من كل وجه، كما قال فيهم‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عليكَ الْبَلاَغُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏، فجعل الأميين مقابلين لأهل الكتاب، فالكتابي غير الأمي‏.‏

فلما بعث فيهم ووجب عليهم اتباع ما جاء به من الكتاب وتدبره وعقله والعمل به ـ وقد جعله تفصيلاً لكل شيء، وعلمهم نبيهم كل شيء حتى الخراءة ـ صاروا أهل كتاب وعلم، بل صاروا أعلم الخلق،/وأفضلهم في العلوم النافعة،وزالت عنهم الأمية المذمومة الناقصة، وهي عدم العلم والكتاب المنزل، إلى أن علموا الكتاب والحكمة وأورثوا الكتاب، كما قال فيهم‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، فكانوا أميين من كل وجه، فلما علَّمهم الكتاب والحكمة قال فيهم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ علينَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155،157‏]‏، واستجيب فيهم دعوة الخليل حيث قال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏

فصارت هذه الأمية منها ما هو محرم‏.‏ ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو نقص، وترك الأفضل، فمن لم يقرأ الفاتحة، أو لم يقرأ شيئًا من القرآن تسميه الفقهاء في ‏[‏باب الصلاة‏]‏ أميا، ويقابلونه بالقارئ، /فيقولون‏:‏ لا يصح اقتداء القارئ، بالأمي، ويجوز أن يأتم الأمي بالأمي، ونحو ذلك من المسائل، وغرضهم بالأمي هنا‏:‏ الذي لا يقرأ القراءة الواجبة سواء كان يكتب أو لا يكتب، يحسب أو لا يحسب‏.‏

فهذه الأمية منها ما هو ترك واجب يعاقب الرجل عليه، إذا قدر على التعلم فتركه‏.‏

ومنها ما هو مذموم كالذي وصفه الله ـ عز وجل ـ عن أهل الكتاب حيث قال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏، فهذه صفة من لا يفقه كلا الله ويعمل به، وإنما يقتصر على مجرد تلاوته، كما قال الحسن البصري‏:‏ نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً‏.‏ فالأمي هنا قد يقرأ حروف القرآن أو غيرها ولا يفقه، بل يتكلم في العلم بظاهر من القول ظنًا، فهذا ـ أيضًا ـ أمي مذموم، كما ذمه الله؛ لنقص علمه الواجب سواء كان فرض عين، أم كفاية‏.‏

ومنها ما هو الأفضل الأكمل كالذي لا يقرأ من القرآن إلا بعضه، ولا يفهم منه إلا ما يتعلق به، ولا يفهم من الشريعة إلا مقدار الواجب /عليه، فهذا ـ أيضًا ـ يقال له‏:‏ أمي، وغيره ممن أوتي القرآن علمًا وعملاً أفضل منه وأكمل‏.‏

فهذه الأمور المميزة للشخص عن الأمور التي هي فضائل وكمال، فقدها إما فقد واجب عينًا، أو واجب على الكفاية، أو مستحب، وهذه يوصف الله بها، وأنبياؤه مطلقًا، فإن الله عليم حكيم، جمع العلم، والكلام النافع طلبًا وخبرًا وإرادة، وكذلك أنبياؤه ونبينا سيد العلماء والحكماء‏.‏

وأما الأمور المميزة التي هي وسائل وأسباب إلى الفضائل مع إمكان الاستغناء عنها بغيرها، فهذه مثل الكتاب الذي هو الخط والحساب، فهذا إذا فقدها مع أن فضيلته في نفسه لا تتم بدونها، وفقدها نقص، إذا حصلها واستعان بها على كماله وفضله كالذي يتعلم الخط فيقرأ به القرآن؛ وكتب العلم النافعة، أو يكتب للناس ما ينتفعون به‏.‏ كان هذا فضلاً في حقه وكمالاً، وإن استعان به على تحصيل ما يضره، أو يضر الناس، كالذي يقرأ بها كتب الضلالة، ويكتب بها ما يضر الناس كالذي يزور خطوط الأمراء والقضاة والشهود‏.‏ كان هذا ضررًا في حقه، وسيئة ومنقصة؛ ولهذا نهى عمر أن تعلم النساء الخط‏.‏

/وإن أمكن أن يستغني عنها بالكلية، بحيث ينال كمال العلوم من غيرها، وينال كمال التعليم بدونها‏.‏ كان هذا أفضل له وأكمل‏.‏ وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، فإن أموته لم تكن من جهة فقد العلم والقراءة عن ظهر قلب، فإنه إمام الأئمة في هذا، وإنما كان من جهة أنه لا يكتب ولا يقرأ مكتوبًا‏.‏ كما قال الله فيه‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقد اختلف الناس‏:‏ هل كتب يوم الحديبية بخطه معجزة له‏؟‏ أم لم يكتب‏؟‏ وكان انتفاء الكتابة عنه مع حصول أكمل مقاصدها بالمنع من طريقها من أعظم فضائله، وأكبر معجزاته، فإن الله علمه العلم بلا واسطة كتاب معجزة له، ولما كان قد دخل في الكتب من التحريف والتبديل، وعلم هو صلى الله عليه وسلم أمته الكتاب والحكمة من غير حاجة منه إلى أن يكتب بيده، وأما سائر أكابر الصحابة ـ كالخلفاء الأربعة وغيرهم ـ فالغالب على كبارهم الكتابة لاحتياجهم إليها؛ إذ لم يؤت أحد منهم من الوحي ما أوتيه، صارت أموته المختصة به كمالاً في حقه من جهة الغني بما هو أفضل منها وأكمل، ونقصًا في حق غيره من جهة فقده الفضائل التي لا تتم إلا بالكتابة‏.‏

/إذا تبين هذا، فكُتَّابُ أيام الشهر وحُسَّابُهُ من هذا الباب ـ كما قدمناه ـ فإن من كتب مسير الشمس والقمر بحروف ‏[‏أبجد‏]‏ ونحوها، وحسب كم مضي من مسيرها، ومتي يلتقيان ليلة الاستسرار، ومتي يتقابلان ليلة الإبدار، ونحو ذلك، فليس في هذا الكتاب والحساب من الفائدة، إلا ضبط المواقيت التي يحتاج الناس إليها في تحديد الحوادث والأعمال، ونحو ذلك، كما فعل ذلك غيرنا من الأمم، فضبطوا مواقيتهم بالكتاب والحساب، كما يفعلونه بالجداول، أو بحروف الجمل، وكما يحسبون مسير الشمس والقمر، ويعدلون ذلك، ويقومونه بالسير الأوسط، حتى يتبين لهم وقت الاستسرار والإبدار، وغير ذلك، فبين النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا أيتها الأمة الأمية لا نكتب هذا الكتاب، ولا نحسب هذا الحساب، فعاد كلامه إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال وطلوعه‏.‏

وقد قدمنا ـ فيما تقدم ـ أن النفي وإن كان على إطلاقه يكون عامًا، فإذا كان في سياق الكلام ما يبين المقصود علم به المقصود أخاص هو، أم عام، فلما قرن ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏الشهر ثلاثون‏)‏ و ‏(‏الشهر تسعة وعشرون‏)‏ بين أن المراد به‏:‏ إنا لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا /حساب، إذ هو تارة كذلك، وتارة كذلك، والفارق بينهما هو الرؤية فقط، ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب ـ كما سنبينه ـ فإن أرباب الكُتَّاب والحُسَّاب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر، وإنما يقربوا ذلك، فيصيبون تارة، ويخطئون أخري‏.‏

وظهر بذلك أن الأمية المذكورة هنا صفة مدح وكمال من وجوه‏:‏ من جهة الاستغناء عن الكُتَّاب والحُسَّاب، بما هو أبين منه وأظهر، وهو الهلال، ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط، ومن جهة أن فيهما تعبًا كثيرًا بلا فائدة، فإن ذلك شغل عن المصالح؛ إذ هذا مقصود لغيره لا لنفسه، وإذا كان نفي الكتاب والحساب عنهم للاستغناء عنه بخير منه، وللمفسدة التي فيه كان الكتاب والحساب في ذلك نقصًا وعيبًا، بل سيئة وذنبًا، فمن دخل فيه فقد خرج عن الأمة الأمية فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة، ودخل في أمر ناقص يؤديه إلى الفساد والاضطراب‏.‏

وأيضًا، فإنه جعل هذا وصفًا للأمة، كما جعلها وسطًا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏143‏]‏، فالخروج عن ذلك اتباع غير سبيل المؤمنين‏.‏

/وأيضًا، فالشيء إذا كان صفة للأمة لأنه أصلح من غيره، ولأن غيره فيه مفسدة‏.‏ كان ذلك مما يجب مراعاته، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره لوجهين‏:‏ لما فيه من المفسدة، ولأن صفة الكمال التي للأمة يجب حفظها عليها، فإن كان الواحد لا يجب عليه في نفسه تحصيل المستحبات، فإن كل ما شرع للأمة جميعًا صار من دينها، وحفظ مجموع الدين واجب على الأمة، فرض عين أو فرض كفاية؛ ولهذا وجب على مجموع الأمـة حفظ جميع الكتاب، وجميع السنن المتعلقة بالمستحبات والرغائب، وإن لم يجب ذلك على آحادها؛ ولهذا أوجب على الأمة من تحصيل المستحبات العامة مالا يجب على الأفراد، وتحصيله لنفسه مثل الذي يؤم الناس في صلاته، فإنه ليس له أن يفعل دائمًا ما يجوز للمنفرد فعله، بل يجب عليه ألا يطول الصلاة تطويلاً يضر من خلفه، ولا ينقصها عن سننها الراتبة، مثل قراءة السورتين الأوليين، وإكمال الركوع والسجود، ونحو ذلك، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بعزل إمام كان يصلي لبصاقه في قبلة المسجد، وقال‏:‏ ‏(‏يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء‏)‏ الحديث، وقال‏:‏ ‏(‏إذا أم الرجل القرم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال‏)‏‏.‏

ولهذا قال الفقهاء‏:‏ إن الإمام المقيم بالناس حجهم عليه أن يأتي بكمال الحج من تأخير النفر إلى الثالث من مني، ولا يتعجل في النفر الأول، ونحو ذلك من سنن الحج التي لو تركها الواحد لم يأثم، وليس للإمام تركها لأجل مصلحة عموم الحجيج من تحصيل كمال الحج وتمامه؛ ولهذا لما اجتمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدان فشهد العيد، ثم رخص في الجمعة، قال‏:‏ ‏(‏إنا مجمعون‏)‏‏.‏ فقال أحمد في المشهور عنه وغيره‏:‏ إن على الإمام أن يقيم لهم الجمعة ليحصل الكمال لمن شهدها وإن جاز للآحاد الانصراف‏.‏

ونظائره كثيرة مما يوجب أن يحفظ للأمة ـ في أمرها العام في الأزمنة والأمكنة والأعمال? كمال دينها الذي قال الله فيه‏:‏ ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عليكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، فما أفضى إلى نقص كمال دينها ـ ولو بترك مستحب ـ يفضي إلى تركه مطلقًا؛ كان تحصيله واجبًا على الكفاية، إما على الأئمة وإما على غيرهم، فالكمال والفضل الذي يحصل برؤية الهلال دون الحساب يزول بمراعاة الحساب لو لم يكن فيه مفسدة‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ ما دلت عليه الأحاديث ما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه‏)‏ كما ثبت في ذلك عنه من حديث ابن عمر، فنهى عن الصوم قبل رؤيته وعن الفطر قبل /رؤيته‏.‏ ولا يخلو النهي، إما أن يكون عامًا في الصوم فرضًا ونفلاً ونذرًا وقضاء، أو يكون المراد‏:‏ فلا تصوموا رمضان حتى تروه‏.‏ وعلى التقديرين فقد نهى أن يصام رمضان قبل الرؤية، والرؤية الإحساس والإبصار به، فمتي لم يره المسلمون كيف يجوز أن يقال‏:‏ قد أخبر مخبر أنه يري، وإذا رؤي كيف يجوز أن يقال‏:‏ أخبر مخبر أنه لا يري، وقد علم أن قوله‏:‏ ‏(‏فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه‏)‏ ليس المراد به أنه لا يصومه أحد حتى يراه بنفسه، بل لا يصومه أحد حتى يراه أو يراه غيره‏؟‏‏!‏

وفي الجملة، فهو من باب عموم النفي لا نفي العموم، أي‏:‏ لا يصومه أحد حتى يري، أو حتى يعلم أنه قد رؤي، أو ثبت أنه قد رؤي؛ ولهذا لما اختلف السلف ومن بعدهم في صوم يوم الشك من رمضان، فصامه بعضهم مطلقًا في الصحو والغيم احتياطًا، وبعضهم كره صومه مطلقًا في الصحو والغيم كراهة الزيادة في الشهر، وفرق بعضهم بين الصحو والغيم لظهور العدم في الصحو دون الغيم؛ كان الذي صاموه احتياطًا إنما صاموه لإمكان أن يكون قد رآه غيرهم‏.‏ فينقصونه فيما بعد، وأما لو علموا أنه لم يره أحد لم يكن أحد من الأمة يستجيز أن يصومه؛ لكون الحساب قد دل على أنه يطلع ولم ير مع ذلك، كما /أن الجمهور الذين كرهوا صومه لم يلتفتوا إلى هذا الجواب؛ إذ الحكم ممدود إلى وقوع الرؤية لا إلى جوازها‏.‏

واختلف هؤلاء‏:‏ هل يجوز أو يكره أو يحرم أو يستحب أن يصام بغير نية رمضان إذا لم يوافق عادة‏؟‏ على أربعة أقوال‏:‏ هذا يجوزه أو يستحبه حملاً للنهي عن صوم رمضان، ويكرهه ويحظره لنهيه صلى الله عليه وسلم عن التقدم، ولخوف الزيادة، ولمعان أخر‏.‏

ثم إذا صامه بغير نية رمضان، أو بنيته المكروهة، فهل يجزئه إذا تبين، أو لا يجزئه، بل عليه القضاء‏؟‏ على قولين للأمة‏.‏ وإذا لم يتبين أنه رؤي إلا من النهار، فهل يجزئه إنشاء النية من النهار‏؟‏ على قولين للأمة‏.‏

ولو تبين أنه رؤي في مكان آخر، فهل يجب القضاء، أو لا يجب مطلقًا‏؟‏ أم إذا كان دون مسافة القصر‏؟‏ أم إذا كانت الرؤية في الإقليم‏؟‏ أم إذا كان العمل واحدًا‏؟‏ وهل تثبت الرؤية بقول الواحد‏؟‏ أم الاثنين مطلقًا‏؟‏ أم لابد في الصحو من عدد كثير‏؟‏ هذا مما تنازع فيه المسلمون، فهذه المسائل التي تنازع فيها المسلمون التي تتعلق بيوم الثلاثين، وتفرع بسببها مسائل أخر لعموم البلوي بهذا /الأمر، ولما فهموه من كلا الله ورسوله ورأوه من أصول شريعته، ولما بلغهم عن الصدر الأول، وهي من جنس المسائل التي تنازع فيها أهل الاجتهاد، بخلاف من خرج في ذلك إلى الأخذ بالحساب، أو الكتاب، كالجداول، وحساب التقويم، والتعديل المأخوذ من سيرهما، وغير ذلك الذي صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفيه عن أمته والنهي عنه‏.‏

ولهذا ما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد أَدْخَلَ في الإسلام ما ليس منه، فيقابلون هذه الأقوال بالإنكار الذي يقابل به أهل البدع، وهؤلاء الذين ابتدعوا فيه ما يشبه بدع أهل الكتاب والصابئة أنواع‏:‏ قوم منتسبه إلى الشيعة من الإسماعيلية وغيرهم، يقولون بالعدد دون الرؤية، ومبدأ خروج هذه البدعة من الكوفة‏.‏

فمنهم من يعتمد على جدول يزعمون أن جعفر الصادق دفعه إليهم ولم يأت به إلا عبدالله بن معاوية، ولا يختلف أهل المعرفة من الشيعة وغيرهم‏:‏ أن هذا كذب مختلق على جعفر، اختلقه عليه عبدالله هذا، وقد ثبت بالنقل المرضي عن جعفر وعامة أئمة أهل البيت ما عليه المسلمون، وهو قول أكثر عقلاء الشيعة‏.‏

/ومنهم من يعتمد على أن رابع رجب أول رمضان، أو على أن خامس رمضان الماضي أول رمضان الحاضر‏.‏

ومنهم من يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا لا يعرف في شيء من كتب الإسلام، ولا رواه عالم قط أنه قال‏:‏ ‏(‏يوم صومكم يوم نحركم‏)‏‏.‏ وغالب هؤلاء يوجبون أن يكون رمضان تامًا، ويمنعون أن يكون تسعة وعشرين‏.‏

ومنهم من يعتمد على رؤيته بالمشرق قبل الاستسرار، فيوجبون استسراره ليلتين، ويقولون‏:‏ أول يوم يري في أوله فهو من الشهر الماضي، واليوم يكون اليوم الذي لا يري في طرفيه، ثم اليوم الذي يري في آخره هو أول الشهر الثاني، ويجعلون مبدأ الشهر قبل رؤية الهلال، مع العلم بأن الهلال يستسر ليلة تارة، وليلتين أخري، وقد يستسر ثلاث ليال‏.‏

فأما الذين يعتمدون على حساب الشهور وتعديلها فيعتبرونها برمضان الماضي، أو برجب، أو يضعون جدولاً يعتمدون عليه، فهم مع مخالفتهم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نكتب ولا نحسب‏)‏ إنما عمدتهم /تعديل سير النيرين، والتعديل أن يأخذ أعلى سيرهما، وأدناه، فيأخذ الوسط منه ويجمعه‏.‏

ولما كان الغالب على شهور العام أن الأول ثلاثون والثاني تسعة وعشرون؛ كان جميع أنواع هذا الحساب والكتاب مبنية على أن الشهر الأول ثلاثون، والثاني تسعة وعشرون، والسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون،ويحتاجون أن يكتبوا في كل عدة من السنين زيادة يوم تصير فيه السنة ثلاثمائة وخمسة وخمسين يومًا، يزيدونه في ذي الحجة ـ مثلاً ـ فهذا أصل عدتهم، وهذا القدر موافق في أكثر الأوقات؛ لأن الغالب على الشهور هكذا، ولكنه غير مطرد، فقد يتوالي شهران وثلاثة وأكثر ثلاثين، وقد يتوالي شهران وثلاثة وأكثر تسعة وعشرين، فينتقض كتابهم وحسابهم، ويفسد دينهم الذي ليس بقيم، وهذا من الأسباب الموجبة لئلا يعمل بالكتاب والحساب في الأهلة‏.‏

فهذه طريقة هؤلاء المبتدعة المارقين الخارجين عن شريعة الإسلام، الذين يحسبون ذلك الشهر بما قبله من الشهور، إما في جميع السنين أو بعضها، ويكتبون ذلك‏.‏

وأما الفريق الثاني، فقوم من فقهاء البصريين ذهبوا إلى أن قوله‏:‏/ ‏(‏فاقدروا له‏)‏ تقدير حساب بمنازل القمر، وقد روي عن محمد بن سيرين قال‏:‏ خرجت في اليوم الذي شك فيه، فلم أدخل على أحد يؤخذ عنه العلم إلا وجدته يأكل، إلا رجلاً كان يحسب ويأخذ بالحساب، ولو لم يعلمه كان خيرًا له‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الرجل مطرف بن عبدالله بن الشِّخِّير، وهو رجل جليل القدر، إلا أن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء‏.‏ وقد حكي هذا القول عن أبي العباس بن سريج ـ أيضًا ـ وحكاه بعض المالكية عن الشافعي‏:‏ أن من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر لم يتبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة، وغُمَّ عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه، وهذا باطل عن الشافعي لا أصل له عنه، بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة، وإنما كان قد حكي ابن سُرَيج ـ وهو كان من أكابر أصحاب الشافعي ـ نسبة ذلك إليه؛ إذ كان هو القائم بنصر مذهبه‏.‏

واحتجاج هؤلاء بحديث ابن عمر في غاية الفساد، مع أن ابن عمر هو الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب‏)‏ فكيف يكون موجب حديثه العمل بالحساب‏؟‏‏!‏ وهؤلاء يحسبون مسيره في ذلك الشهر وليإليه، وليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلاً، بل أية طريقة سلكوها، فإن الخطأ واقع فيها ـ أيضًا ـ فإن الله ـ سبحانه ـ لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا، بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته /طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقًا كما سلك الأولون منهم من لم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد، وإنما هو تقريب مثل أن يقال‏:‏ إن رؤي صبيحة ثمان وعشرين فهو تام، وإن لم ير صبيحة ثمان فهو ناقص، وهذا بناء على أن الاستسرار لليلتين، وليس بصحيح، بل قد يستسر ليلة تارة، وثلاث ليالٍ أخري‏.‏

وهذا الذي قالوه إنما هو بناء على أنه كل ليلة لا يمكث في المنزلة إلا ستة أسباع ساعة، لا أقل ولا أكثر، فيغيب ليلة السابع نصف الليل، ويطلع ليلة أربعة عشر من أول الليل إلى طلوع الشمس، وليلة الحادي والعشرين يطلع من نصف الليل، وليلة الثامن والعشرين إن استسر فيها نقص وإلا كمل، وهذا غالب سيره، وإلا فقد يسرع ويبطئ‏.‏

وأما العقل، فاعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يري لا محالة، أو لا يري البتة على وجه مطرد، وإنما قد يتفق ذلك، أو لا يمكن بعض الأوقات؛ ولهذا كان المعتنون بهذا الفن من الأمم ـ الروم، والهند، والفرس، والعرب، وغيرهم مثل بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء، ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده ـ لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفًا واحدًا، ولا حدوه كما حدوا اجتماع القرصين، وإنما تكلم به قوم منهم في أبناء الإسلام،مثل /كوشيار الديلمي، وعليه وعلى مثله يعتمد من تكلم في الرؤية منهم‏.‏ وقد أنكر ذلك عليه حذاقهم ـ مثل أبي على المرْوَذِي القَطَّان وغيره ـ وقالوا‏:‏ إنه تشوق بذلك عند المسلمين، وإلا فهذا لا يمكن ضبطه‏.‏

ولعل من دخل في ذلك منهم كان مرموقًا بنفاق، فما النفاق من هؤلاء ببعيد، أو يتقرب به إلى بعض الملوك الجهال، ممن يحسن ظنه بالحساب، مع انتسابه إلى الإسلام‏.‏

وبيان امتناع ضبط ذلك‏:‏ أن الحاسب إنما يقدره على ضبط شبح الشمس والقمر وجريهما، أنهما يتحاذيان في الساعة الفلانية في البرج الفلاني في السماء المحاذي للمكان الفلاني من الأرض، سواء كان الاجتماع من ليل أو نهار، وهذا الاجتماع يكون بعد الاستسرار، وقبل الاستهلال، فإن القمر يجري في منازله الثمانية والعشرين، كما قدره الله منازل، ثم يقرب من الشمس فيستسر ليلة أو ليلتين؛ لمحاذاته لها، فإذا خرج من تحتها جعل الله فيه النور، ثم يزداد النور كلما بَعُدَ عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار، ثم ينقص كلما قرب منها إلى أن يجامعها؛ ولهذا يقولون‏:‏ الاجتماع والاستقبال، ولا يقدرون أن يقولوا‏:‏ الهلال وقت المفارقة على كذا‏.‏ يقولون‏:‏ الاجتماع وقت الاستسرار، والاستقبال وقت الإبدار‏.‏

/ومن معرفة الحساب الاستسرار والإبدار الذي هو الاجتماع والاستقبال، فالناس يعبرون عن ذلك بالأمر الظاهر من الاستسرار الهلالي في آخر الشهر وظهوره في أوله، وكمال نوره في وسطه، والحساب يعبرون بالأمر الخفي من اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، ومن استقبال الشمس والقمر الذي هو وقت الإبدار، فإن هذا يضبط بالحساب‏.‏

وأما الإهلال، فلا له عندهم من جهة الحساب ضبط؛ لأنه لا يضبط بحساب يعرف كما يعرف وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار، إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة لتحول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد أن ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لابد أن يطلع الهلال، وإنما يقع الشك ليلة الثلاثين‏.‏ فنقول‏:‏ الحاسب غاية ما يمكنه إذا صح حسابه أن يعرف مثلا أن القرصين اجتمعا في الساعة الفلانية، وأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها القمر، إما بعشر درجات ـ مثلا ـ أو أقل، أو أكثر، والدرجة هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا من الفلك‏.‏

/فإنهم قسموه اثنى عشر قسما، سموها ‏[‏الداخل‏]‏، كل برج اثنتا عشرة درجة، وهذا غاية معرفته، وهي بتحديدكم بينهما من البعد في وقت معين في مكان معين‏.‏ هذا الذي يضبطه بالحساب‏.‏ أما كونه يرى أو لا يرى، فهذا أمر حسي طبيعي ليس هو أمرا حسابيا رياضيا، وإنما غايته أن يقول استقرأنا أنه إذا كان على كذا وكذا درجة يرى قطعا أو لا يرى قطعا، فهذا جهل وغلط؛ فإن هذا لا يجري على قانون واحد لا يزيد ولا ينقص في النفي والإثبات، بل إذا كان بعده ـ مثلا ـ عشرين درجة، فهذا يرى مالم يحل حائل، وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى،وأما ما حول العشرة، فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها تختلف؛ وذلك لأن الرؤية تختلف لحدة البصر وكلاله، فمع دقته يراه البصر الحديد دون الكليل، ومع توسطه يراه غالب الناس، وليست أبصار الناس محصورة بين حاصرين، ولا يمكن أن يقال‏:‏ يراه غالب الناس، ولا يراه غالبهم؛ لأنه لو رآه اثنان علق الشارع الحكم بهما بالإجماع، وإن كان الجمهور لم يروه، فإذا قال‏:‏ لا يرى بناء على ذلك كان مخطئاً في حكم الشرع، وإن قال‏:‏ يرى بمعنى أنه يراه البصر الحديد، فقد لا يتفق فيمن يتراءى له من يكون بصره حديداً، /فلا يلتفت إلى إمكان رؤية من ليس بحاضر‏.‏

السبب الثاني‏:‏ أن يختلف بكثرة المترائين وقلتهم، فإنهم إذا كثروا كان أقرب أن يكون فيهم من يراه لحدة بصره وخبرته بموضع طلوعه، والتحديق نحو مطلعه، وإذا قلوا، فقد لا يتفق ذلك،فإذا ظن أنه يرى قد يكونون قليلاً فلا يمكن أن يروه، وإذا قال‏:‏ لا يرى، فقد يكون المتراؤون كثيرا فيهم من فيه قوة على إدراك مالم يدركه غيره‏.‏

السبب الثالث‏:‏ أنه يختلف باختلاف مكان الترائي، فإن من كان أعلى مكاناً في منارة أو سطح عال، أو على رأس جبل، ليس بمنزلة من يكون على القاع الصفصف، أو في بطن واد، كذلك قد يكون أمام أحد المترائين بناء أو جبل أو نحو ذلك يمكن معه أن يراه غالبا، لم يره المنخفض ونحوه، وإذا قيل‏:‏ لا يرى، فقد يراه المرتفع ونحوه، والرؤية تختلف بهذا اختلافا ظاهراً‏.‏

السبب الرابع‏:‏ أنه يختلف باختلاف وقت الترائي، وذلك أن عادة الحساب أنهم يخبرون ببعده وقت غروب الشمس، وفي تلك /الساعة يكون قريبا من الشمس، فيكون نوره قليلا، وتكون حمرة شعاع الشمس مانعا له بعض المنع، فكلما انخفض إلى الأفق بعد عن الشمس، فيقوي شرط الرؤية، ويبقى مانعها، فيكثر نوره، ويبعد عن شعاع الشمس، فإذا ظن أنه لا يرى وقت الغروب أو عقبه، فإنه يرى بعد ذلك، ولو عند هويه في المغرب، وإن قال‏:‏ إنه يضبط حاله من حين وجوب الشمس إلى حين وجوبه، فإنما يمكنه أن يضبط عدد تلك الدرجات؛ لأنه يبقى مرتفعا بقدر ما بينهما من البعد، أما مقدار ما يحصل فيه من الضوء، وما يزول من الشعاع المانع له، فإن بذلك تحصل الرؤية بضبطه على وجه واحد ـ يصح مع الرؤية دائما، أو يمتنع دائما ـ فهذا لا يقدر عليه أبدا، وليس هو في نفسه شيئاً منضبطا خصوصا إذا كانت الشمس‏.‏

السبب الخامس‏:‏ صفاء الجو وكدره، لست أعنى إذا كان هناك حائل يمنع الرؤية، كالغيم، والقتر الهائج من الأدخنة، والأبخرة، وإنما إذا كان الجو بحيث يمكن فيه رؤيته أمكن من بعض، إذا كان الجو صافيا من كل كدر، في مثل ما يكون في الشتاء عقب الأمطار في البرية الذي ليس فيه بخار، بخلاف ما إذا كان في الجو بخار بحيث لا يمكن/فيه رؤيته، كنحو ما يحصل في الصيف بسبب الأبخرة والأدخنة، فإنه لا يمكن رؤيته في مثل ذلك، كما يمكن في مثل صفاء الجو‏.‏

وأما صحة مقابلته، ومعرفة مطلعه، ونحو ذلك، فهذا من الأمور التي يمكن المترائي أن يتعلمها، أو يتحراه، فقد يقال‏:‏ هو شرط الرؤية كالتحديق نحو المغرب خلف الشمس، فلم نذكره في أسباب اختلاف الرؤية، وإنما ذكرنا ماليس في مقدور المترائين الإحاطة من صفة الأبصار، وأعدادها، ومكان الترائي، وزمانه، وصفاء الجو، وكدره‏.‏

فإذا كانت الرؤية حكما تشترك فيه هذه الأسباب التي ليس شيء منها داخلا في حساب الحاسب، فكيف يمكنه مع ذلك يخبر خبرا عاما أنه لا يمكن أن يراه أحد حيث رآه على سبع أو ثمان درجات، أو تسع‏؟‏‏!‏ أم كيف يمكنه يخبر خبرا جزما أنه يرى إذا كان على تسعة أو عشرة مثلا‏؟‏‏!‏

ولهذا تجدهم مختلفين في قوس الرؤية‏:‏ كم ارتفاعه‏؟‏ منهم من يقول‏:‏ تسعة ونصف، ومنهم من يقول ويحتاجون أن يفرقوا بين الصيف/ والشتاء، إذا كانت الشمس في البروج الشمالية مرتفعة، أو في البروج الجنوبية منخفضة، فتبين بهذا البيان أن خبرهم بالرؤية من جنس خبرهم بالأحكام، وأضعف، وذلك هب أنه قد ثبت أن الحركات العلوية سبب الحوادث الأرضية، فإن هذا القدر لا يمكن المسلم أن يجزم بنفيه؛ إذ الله ـ سبحانه ـ جعل بعض المخلوقات ـ أعيانها وصفاتها وحركاتها ـ سببا لبعض، وليس في هذا ما يحيله شرع ولا عقل، لكن المسلمون قسمان‏:‏

منهم من يقول‏:‏ هذا لا دليل على ثبوته، فلا يجوز القول به، فإنه قول بلا علم‏.‏

وآخر يقول‏:‏ بل هو ثابت في الجملة؛ لأنه قد عرف بعضه بالتجربة، ولأن الشريعة دلت على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، لكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده‏)‏‏.‏ والتخويف إنما يكون بوجود سبب الخوف، فعلم أن كسوفهما قد يكون سببا لأمر مخوف، وقوله‏:‏ ‏(‏لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته‏)‏ رد لما توهمه بعض الناس، فإن الشمس خسفت يوم موت إبراهيم، فاعتقد بعض الناس أنها خسفت من أجل موته تعظيماً لموته، وأن موته سبب خسوفها، فأخبر النبي/ صلى الله عليه وسلم أنه لا ينخسف لأجل أنه مات أحد، ولا لأجل أنه حيى أحد‏.‏

وهذا كما في الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ حدثنى رجال من الأنصار أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرمى بنجم فاستنار، فقال‏:‏ ‏(‏ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ كنا نقول‏:‏ ولد الليلة عظيم أو مات عظيم، فقال‏:‏ ‏(‏إنه لا يرمى بها لموت أحد، ولا لحياته، ولكن الله إذا قضى بالقضاء سبح حملة العرش‏)‏ الحديث‏.‏ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشهب التي يرجم بها لا يكون عن سبب حدث في الأرض، وإنما يكون عن أمر حدث في السماء، وأن الرمى بها لطرد الشياطين المسترقة‏.‏

وكذلك الشمس والقمر هما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده، كما قال الله‏:‏ ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ فعلم أن هذه الآيات السماوية قد تكون سبب عذاب؛ ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم عند وجود سبب الخوف ما يدفعه من الأعمال الصالحة، فأمر بصلاة الكسوف ـ الصلاة الطويلة ـ وأمر بالعتق والصدقة، وأمر بالدعاء، والاستغفار، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن البلاء والدعاء /ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض‏)‏، فالدعاء ونحوه يدفع البلاء النازل من السماء‏.‏

فإن قلت‏:‏ من عوام الناس ـ وإن كان منتسبا إلى علم ـ من يجزم بأن الحركات العلوية ليست سبباً لحدوث أمر البتة، وربما اعتقد أن تجويز ذلك وإثباته من جملة التنجيم المحرم، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد‏)‏ رواه أبو داود وغيره، وربما احتج بعضهم بما فهمه من قوله‏:‏ ‏(‏لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته‏)‏ واعتقد أن العلة هنا هي العلة الغائية، أي‏:‏ لا يكسفان ليحدث عن ذلك موت أو حياة‏.‏

قلت‏:‏ قول هذا جهل؛ لأنه قول بلا علم، وقد حرم الله على الرجل أن ينفي ما ليس له به علم، وحرم عليه أن يقول على الله مالا يعلم، وأخبر أن الذي يأمر بالقول بغير علم هو الشيطان فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏36‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏169‏]‏،وقال‏:‏‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏ فإنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله، ولا قال أحد من أهل العلم ذلك، /ولا في العقل، وما يعلم بالعقل ما يعلم به نفي ذلك، وإنما نفي ذلك جزما بغير مثل نفي بعض الجهال أن تكون الأفلاك مستديرة، فمنهم من ينفي ذلك جزما،ومنهم من ينفي الجزم به على كل أحد،وكلاهما جهل، فمن أين له نفي ذلك، أو نفي العلم به عن جميع الخلق، ولا دليل له على ذلك إلا ما قد يفهمه بفهمه الناقص‏؟‏‏!‏

هذا وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏37‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ في فلكة مثل فلكة المغزل، وهكذا هو في لسان العرب‏:‏ الفلك‏:‏ الشيء المستدير، ومنه يقال‏:‏ تفلك ثدي الجارية إذا استدار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏، والتكوير هو التدوير، ومنه قيل‏:‏ كار العمامة وكورها، إذا أدارها، ومنه قيل‏:‏ للكرة‏:‏ كرة، وهي الجسم المستدير؛ ولهذا يقال للأفلاك‏:‏ كروية الشكل؛ لأن أصل الكرة كورة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقبلت ألفا، وكورت الكارة، إذا دورتها، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏إن الشمس والقمر يكوران يوم القيامة /كأنهما ثوران في نار جهنم‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 5‏]‏، مثل حسبان الرحا، وقال‏:‏ ‏{‏مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏، وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث، أو المربع، أو غيرهما، فإنه يتفاوت؛ لأن زواياه مخالفة لقوائمه، والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي، ليس بعضه مخالفا لبعض‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال‏:‏ إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، إن شأنه أعظم من ذلك، إن عرشه على سمواته هكذا‏)‏ وقال بيده مثل القبة‏:‏ ‏(‏وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه‏)‏ رواه أبو داود وغيره من حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن‏)‏، فقد أخبر أن الفردوس هي الأعلى والأوسط، وهذا لا يكون إلا في الصورة المستديرة، فأما المربع ونحوه فليس أوسطه أعلاه، بل هو متساوٍ‏.‏

وأمـا إجماع العلماء، فقال إيـاسُ بـنُ معاويـة ـ الإمـام المشهـور قـاضي /البصـرة مـن التابعين‏:‏ السماء على الأرض مثل القبة‏.‏

وقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي ـ من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد ـ‏:‏ لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة على قطبين ثابتين، غير متحركين‏:‏ أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب‏.‏ قال‏:‏ ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركاتها،ومقادير أجزائها إلى أن تتوسط السماء، ثم تنحدر على ذلك الترتيب، كأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دوراً واحداً‏.‏ قال‏:‏ وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة‏.‏ قال‏:‏ ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب‏.‏

قال‏:‏ فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء، كالنقطة في الدائرة، يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحى السماء على قدر واحد، فيـــدل ذلك على بعد ما بين السماء والأرض من جميع /الجهات بقدر واحد، فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء‏.‏

وقد يظن بعض الناس أن ما جاءت به الآثار النبوية من أن العرش سقف الجنة، وأن الله على عرشه، مع ما دلت عليه من أن الأفلاك مستديرة متناقض، أو مقتض أن يكون الله تحت بعض خلقه ـ كما احتج بعض الجهمية على إنكار أن يكون الله فوق العرش باستدارة الأفلاك ـ وأن ذلك مستلزم كون الرب أسفل، وهذا من غلطهم في تصور الأمر، ومن علم أن الأفلاك مستديرة، وأن المحيط الذي هو السقف هو أعلى عليين، وأن المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه، وهو قعر الأرض، هو ‏[‏سجين‏]‏ و‏[‏أسفل سافلين‏]‏ علم من مقابلة الله بين أعلى عليين، وبين سجين، مع أن المقابلة إنما تكون في الظاهر بين العلو والسفل، أو بين السعة والضيق؛ وذلك لأن العلو مستلزم للسعة، والضيق مستلزم للسفول، وعلم أن السماء فوق الأرض مطلقا، لا يتصور أن تكون تحتها قط ـ وإن كانت مستديرة محيطة ـ وكذلك كلما علا كان أرفع وأشمل‏.‏

وعلم أن الجهة قسمان‏:‏ قسم ذاتي، وهو العلو، والسفول فقط‏.‏ وقسم إضافي، وهو ما ينسب إلى الحيوان بحسب حركته، فما أمامه /يقال له‏:‏ أمام، وما خلفه يقال له‏:‏ خلف، وما عن يمينه يقال له‏:‏ اليمين، وما عن يسرته يقال له‏:‏ اليسار، وما فوق رأسه يقال له‏:‏ فوق، وما تحت قدميه يقال له‏:‏ تحت، وذلك أمر إضافي‏.‏ أرأيت لو أن رجلا علق رجليه إلى السماء، ورأسه إلى الأرض، أليست السماء فوقه وإن قابلها برجليه‏؟‏‏!‏ وكذلك النملة أو غيرها لو مشى تحت السقف مقابلا له برجليه، وظهره إلى الأرض؛ لكان العلو محاذيا لرجليه، وإن كان فوقه، وأسفل سافلين ينتهى إلى جوف الأرض‏.‏

والكواكب التي في السماء ـ وإن كان بعضها محاذيا لرؤوسنا، وبعضها في النصف الآخر من الفلك ـ فليس شيء منها تحت شيء، بل كلها فوقنا في السماء، ولما كان الإنسان إذا تصور هذا يسبق إلى وهمه السفل الإضافي، كما احتج به الجهمي الذي أنكر علو الله على عرشه، وخيل على من لا يدري أن من قال‏:‏ إن الله فوق العرش، فقد جعله تحت نصف المخلوقات، أو جعله فلكا آخر ـ تعالى الله عما يقول الجاهل‏.‏

فمن ظن أنه لازم لأهل الإسلام من الأمور التي لا تليق بالله، ولا هي لازمة، بل هذا يصدقه الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، من حديث الحسن عن أبي هريرة، ورواه الترمذي في حديث الإدلاء؛/ فإن الحديث يدل على أن الله فوق العرش، ويدل على إحاطة العرش، وكونه سقف المخلوقات‏.‏

ومن تأوله على قوله هبط على علم الله، كما فعل الترمذي لم يدر كيف الأمر، ولكن لما كان من أهل السنة، وعلم أن الله فوق العرش، ولم يعرف صورة المخلوقات، وخشي أن يتأوله الجهمي أنه مختلط بالخلق، قال‏:‏ هكذا، وإلا فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كله حق، يصدق بعضه بعضاً‏.‏

وما علم بالمعقول من العلوم الصحيحة يصدق ما جاء به الرسول ويشهد له‏.‏ فنقول‏:‏ إذا تبين أنا نعرف ما قد عرف من استدارة الأفلاك؛ علم أن المنكر له مخالف لجميع الأدلة، لكن المتوقف في ذلك قبل البيان فعل الواجب، وكذلك من لم يزل يستفيد ذلك من جهة لا يثق بها‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم‏)‏ وإن كون بعض الحركات العالية سبب لبعض الحوادث مما لا ينكر، بل إما أن يقبل أو لا يرد‏.‏

فالقول بالأحكام النجومية باطل عقلا، محرم شرعا، وذلك أن حركة الفلك ـ وإن كان لها أثر ـ ليست مستقلة، بل تأثير الأرواح وغيرها /من الملائكة أشد من تأثيره، وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض، وكذلك تأثير قلوب الآدميين بالدعاء وغيره من أعظم المؤثرات باتفاق المسلمين، وكالصابئة المشتغلين بأحكام النجوم وغيرهم من سائر الأمم، فهو في الأمر العام جزء السبب، وإن فرضنا أنه سبب مستقل، أو أنه مستلزم لتمام السبب، فالعلم به غير ممكن لسرعة حركته، وإن فرض العلم به، فمحل تأثيره لا ينضبط؛ إذ ليس تأثير خسوف الشمس في الإقليم الفلاني بأولى من الإقليم الآخر، وإن فرض أنه سبب مستقل قد حصل بشروطه، وعلم به، فلا ريب أن ما يصغر من الأعمال الصالحة من الصلاة والزكاة والصيام والحج وصلة الأرحام، ونحو ذلك، مما أمرت به الشريعة يعارض مقتضى ذلك السبب؛ ولهذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والدعاء والاستغفار والعتق والصدقة عند الخسوف، وأخبر أن الدعاء والبلاء يلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض‏.‏

والمنجمون يعترفون بذلك حتى قال كبيرهم ‏[‏بطليموس‏]‏‏:‏ ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون الدعوات، من جميع اللغات، يحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات‏.‏ فصار ما جاءت به الشريعة إن حدث سبب خير كان ذلك، الصلاة والزكاة يقويه ويؤيده، وإن حدث سبب شر كان ذلك العمل يدفعه، وكذلك استخارة العبد لربه إذا هم بأمر كما /أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين‏)‏ الحديث، فهذه الاستخارة الله العليم القدير خالق الأسباب والمسببات خير من أن يأخذ الطالع فيما يريد فعله، فإن الاختيار غايته تحصيل سبب واحد من أسباب النجح إن صح‏.‏ والاستخارة أخذ للنجح من جميع طرقه، فإن الله يعلم الخيرة، فإما أن يشرح صدر الإنسان، وييسر الأسباب، أو يعسرها ويصرفه عن ذلك‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أتى عرافاً فسأله‏)‏ الحديث،رواه مسلم من حديث صفية بنت أبي عبيدة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والعراف يعم المنجم وغيره، إما لفظاً وإما معنى‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اقتبس شـعبة من النجوم، فقد اقتبس شـعبة من السـحر زاد ما زاد‏)‏،رواه أبو داود وابن ماجه، فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النجوم علما أو عملا من جهة الشرع، وقد بينا من جهة العقل أن ذلك ـ أيضاً ـ متعذر في الغالب؛ لأن أسباب الحوادث وشروطها وموانعها لاتضبط بضبط حركة بعض الأمور، وإنما يتفق الإصابة في ذلك إذا كان بقية الأسباب موجودة، والموانع مرتفعة، لا أن ذلك عن دليل مطرد لازماً أو غالباً‏.‏

وحذاق المنجمين يوافقون على ذلك، ويعرفون أن طالع البلاد لا / يستقيم الحكم به غالبا لمعارضة طالع لوقت وغيره من الموانع، ويقولون‏:‏ إن الأحكام مبناها على الحدس، والوهم‏.‏ فنبين لهم‏:‏ أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام من باب واحد يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك، ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك والاستغناء عما نظن من منفعته بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، ولهذا قال من قال‏:‏ إن كلام هؤلاء بين علوم صادقة لا منفعة فيها ـ ونعوذ بالله من علم لا ينفع ـ وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم، ولقد صدق، فإن الإنسان الحاسب إذا قتل نفسه في حساب الدقائق والثواني كان غايته مالا يفيد، وإنما تعبوا عليه لأجل الأحكام، وهي ظنون كاذبة‏.‏

أما الكلام في الشرعيات، فإن كان علمًا كان فيه منفعة الدنيا والآخرة، وإن كان ظنًا مثل الحكم بشهادة الشاهدين، أو العمل بالدليل الظني الراجح فهو عمل بعلم، وهو ظن يثاب عليه في الدنيا والآخرة‏.‏ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق‏.‏ آخر ما وجد‏.‏ وصلى الله على محمد وآله وسلم‏.‏